بعد لحظات من الختام الرائع للعرض الذي طال انتظاره وأقيم في ملعب باناثينيك المغطى بأكمله بالرخام، أمسكت ماريا غراتسيا كيوري بهاتفها الذكي وأخذت تشكر عددًا من أقرب المتعاونين معها. وقالت لي ونحن نهمّ بالخروج من الملعب، الذي يعود للقرن الرابع قبل الميلاد، بينما ينساب نسيم ليل أثينا العليل: “نحن في غاية السعادة والتأثر. إنها لحظة فارقة. فإلى جانب كل هذا الجهد الشاق، كان هذا المشروع ثمرة شغف جارف وقف خلفه عدد كبير من الناس؛ لقد كان عملًا جماعيًا. وحلمًا تحول فعلًا إلى حقيقة. ومشروع لم أكن لأتخيل تحقيقه أبدًا حين التحقت بـ’ديور‘ قبل خمس سنوات”.
وقد طاف عرض كروز 2022 من ’ديور‘ -الذي شهدته ضيفات من أمثال رئيسة اليونان كاترينا ساكيلاروبولو، والنجمتان كاترين دينوڤ وآنيا تايلور جوي- أرجاء العالم بالفعل، عبر البث المباشر والهاشتاغات التي تداولتها مواقع التواصل الاجتماعي.
وفي هذا العرض المذهل -الذي اكتمل جماله بتصميمه الضوئي “المتكسر”، وأنغام الأوركسترا الحيّة، وفساتين الربّات المزدانة بأغطية للرأس مع الأحذية الرياضية، وتفاصيل المكياج التي فاقت شطحات الخيال بلآلئها المستوحاة من عين الحسود اليونانية، والألعاب النارية الذهبية- جمعت مجموعة كروز من ’ديور‘ كل العناصر المناسبة التي جعلت منه “ليلة لا تُنسى”. بل ومثّل تتويجًا لرحلتها الطويلة في استكشاف مفهوم التبادل الثقافي والإبداعي، لذا، قضت كيوري وفريقها الأيام السابقة للعرض عاكفين على عمل فاق حد الكمال – والإجهاد.
وكان هذا العرض بالنسبة للمديرة الإبداعية للمجموعات النسائية في ’ديور‘ بمثابة رحلة في عالم الأزياء بطبيعة الحال، بيد أنه كان أيضًا رحلة خاصة بها. وكانت فكرته، التي استوحتها من الصور الأيقونية للمصور جان بيير بيدرازيني في مجلة “باري ماتش” والتي التقطها في الأكروبوليس منذ 70 عامًا وسجلت التفاؤل الذي ساد فساتين كريستيان ديور الراقية بعد الحرب العالمية الثانية، تصول وتجول في رأسها منذ حين. وفي الوقت نفسه، كان اهتمامها منصبًا بوجه خاص على استكشاف معادلة اللقاء بين الماضي والحاضر في اليونان من المنظور الجمالي.
وعن ذلك تقول كيوري: “لم أشأ تقديم فكرة تذكارية عن اليونان لأنها ستكون مجازفة مع المدن الكبرى مثل روما أو أثينا أو باريس. كان من المهم أن أمضي بعض الوقت في التفكير. وبدأت الدراسة مرة أخرى في نوفمبر. ولم أبذل في حياتي قط مثل هذا الجهد في المذاكرة!”. وتضيف: “أدركت على الفور أنها نوع من المجازفة، وفي هذه الحالة، أفادتني حقيقة أنني قادمة من روما. وكانت صورة ’ديور‘ أسفل تماثيل عذارى كارواي قوية للغاية، ففي جزء من الثانية تواجهين خطر إعادة تقديم شيء عفا عليه الزمن تمامًا، مثل تذكار أو صورة نمطية. وأنا حساسة جدًا في مثل هذه الأمور، وكأنه شيء شعرت به يلامس جلدي. من الصعب توضيح أن البلد مختلف اليوم”.
ورغم أن اختيار مدينة أثينا لتقديم عرض كروز كان خيارًا صعبًا وتحديًا بالنسبة لكيوري، فإن احتمالات نجاحه ألهبت حماسها. فهي كإيطالية جاء والدها من الجنوب، من منطقة ماغنا غراسيا، قد درست الكلاسيكيات في المدرسة. وكانت ثقافتها مرتبطة دومًا بالثقافة الإغريقية، والتي أرست بدورها أسس الثقافة الغربية عمومًا. وفي ’ديور‘، تطورت لوحة أفكار المجموعة إلى بانوراما مصغرة من المراجع والتأثيرات القوية تراوحت ما بين جامع التحف الإسْكَنْدَرِيّ ألكسندر إيولاس، واللمسات السيريالية لجورجيو دي شيريكو، وحتى الصور الطليعية لهربرت ليست لليونان وصور إدوارد ستايكن للراقصة إيزادورا دانكن في معبد البارثينون. وبطبيعة الحال، ظلت مسألة إعادة تفسير نمط إغريقي بعينه قائمةً -وهو موضوع تكرر كثيرًا في مجال الموضة، بدءًا من تصاميم ماريانو فورتوني ومادلين ڤيونيه ومدام غريس، ووصولًا إلى صوفيا كوكوسالاكي اليونانية.
وأصبح زيٌّ قديم نقطةَ البداية للمجموعة. وتوضح المديرة الإبداعية: “ثمة عنصر في الأزياء بالثقافة الإغريقية قوي لأقصى درجة وبالغ الحداثة اليوم وهو البيبلوس. إنه زي لا جنس محدد له ولا مقاس، ويمكنكِ لفّه حول جسمكِ بأسلوبكِ الخاص. ألا يعبّر هذا كثيرًا عن يومنا وعصرنا؟
ومن بين الإطلالات العديدة التي قدمها العرض كان تصميم بيبلوس يمكن ارتداؤه صباحًا ومساءً، وهو منسوج من النايلون المعاد تدويره وجاء بعيدًا عن اللمسات الإغريقية السابقة لـ’ديور‘، وتضمّن فساتين بطيّات تركّب أعلى كورسيه. وكان التشابك بين الهيكلية والنعومة من أهم النقاط في مجموعة كروز 2022 من ’ديور‘. وتعقب كيوري: “أردت أن تبرز المجموعة بجلاء عناصر ’ديور‘، مثل الجاكيت. فـ’ديور‘ تتناول التصميم المعماري، حيث يُبنى الجاكيت على الجسم، وهي فكرة مغايرة تمامًا لفكرة البيبلوس. لذا، فكرت في تصميم جاكيت من الحرير وإزالة البطانة بأكملها وتقديم شيء بالغ النعومة. وفعلت الأمر نفسه في إحدى تنانير ديور التي عادةً ما تتسم بكبر حجمها. ومن المثير للاهتمام أن يفكر المصمم في هذه العناصر لأننا ننسى أحيانًا أن الموضة مشروع لا يقتصر على صنع الأزياء الجميلة”.
وقد تمثّل الخيط الذي يربط بين قطع المجموعة في فكرة التنقل بين المظهر الرياضي الواضح والبريق الخالص دون عناء. وقد استوحت كيوري هذه الازدواجية الأنيقة من مارلين ديتريش التي اعتادت ارتداء فساتين ربّات الجمال والبناطيل الرجالية، وهو ما وثقته الصور جيدًا. وأسفرت الفكرة عن الطيّات المستلهمة من العصر الإغريقي التي ارتدتها العارضات مع أحذية المطر الطويلة الساق، من بين إطلالات أخرى.
وكان التاريخ الرياضي لمعلب باناثينيك، المعروف أيضًا باسم كاليمارمارو، عاملًا حاسمًا أيضًا، فقد كانت مجموعة كروز تستكشف فكرة العقل السليم في الجسم السليم الرائجة منذ أمد. ولا تزال هذه المقولة القديمة ذات مغزى اليوم في رأي كيوري، ولا سيما في زمن يحاول العالم فيه التعافي من الجائحة.
وعقب عرضي مجموعتي كروز السابقتين اللذين أقيما بمدينة مراكش المغربية ومدينة ليتشي الإيطالية، شاهدنا فيضًا من الخامات المبتكرة في عرض أثينا المذهل تأكيدًا على انفتاح ’ديور‘ المتواصل على التقاليد المختلفة. “لقد منحتني الدار فرصة كبيرة لبدء حوارات داخل قطاع الموضة واسع النطاق”، هكذا توضح كيوري، مضيفة: “إنه مجال واسع النطاق لأن الموضة تتعلق بكل ما هو عصري، وفرصة للقاء الآخر، واكتشاف أشكال أخرى من البراعة الحرفية واستيعاب السلوكيات المختلفة”.
وقد بدأ التبادل الإبداعي بين مصممة الأزياء الإيطالية، والدار الفرنسية الراقية، واليونان قبل العرض ببضعة أشهر، حينما انطلقت كيوري بصحبة فريقها في رحلة إبداعية إلى هذا البلد تستكشف من خلالها الأزياء التقليدية المحلية بالمتاحف ومشاغل الحرفيين. وتجسّدت نتيجة هذا البحث واضحةً جليةً على منصة عرض الأزياء في الكاليمارمارو: فقد استعانت كيوري بالخيّاط وفني التطريز آريس تزونيڤراكيس المقيم بمدينة آرغوس اليونانية لإبداع جاكيت “بار” ناعم وحقيبة “بوك توت” من ’ديور‘، وتولت “سيلك لاين”، المتخصصة صناعة الحرير ومقرها مدينة سوفلي، تطوير طبعات ’ديور‘ المميّزة، مثل نقشة المربعات التي تشتهر بها الدار، فيما تعاون صانع القبعات البارع ستيفن جونز مع أتيليه تسالاڤوتاس الذي يتخذ من بيرايوس مقرًا له ومصنع منتيس-أنتونوبولوس لمنتجات القيطان (نسيج من الحرير أو القُطن يُبْرم فيكون كالحَبْل الدَّقيق ويُستعمل لزينة الملابس) والتابع لمتحف بيناكي لابتكار مجموعة من قبعات الصيادين اليونانيين المفضلة لدى كيوري. كذلك، شهدت المجموعة تعاون المصممة مع الفنانة والرسامة اليونانية كريستيانا سولو التي عملت على إعداد سلسلة من الأعمال التي تصور مجموعة من الشخصيات النسائية في الأساطير اليونانية ومن بينهن بينيلوبي، وأريادني، وأراكني، واللواتي يشتركن جميعًا في جانب الأنسجة وفكرة التحوّل.
“أصبح كثير من الناس شغوفين بمجال الملابس، بما في ذلك الأجيال الجديدة. ولكن لا يعرف هؤلاء حقًا ما يكمن وراء هذه الحِرفة. فهم لا يدركون قيمة الوقت”، هكذا تؤكد كيوري، مضيفة: “نعم، لديك الموهبة، ولديك الناس، ولكنك بحاجة إلى الوقت أيضًا لصنع هذه الأشياء. إننا نتحدث هنا عن اللمسة الإنسانية”.
لقد قدّم مشروع كروز 2022 إلى كيوري فرصة أخرى لاستكشاف واحدة من رؤاها الجوهرية للدار الفرنسية. فإذا كان كريستيان ديور قد منح المرأة الجمال، فقد أضافت أول مصممة امرأة تنضم للدار عامل التمكين. وإذا كانت مجموعة أثينا قد أصبحت بمثابة ملحمة شخصية بالنسبة لكيوري، فتفسيرها لرحلة الوصول إلى إثاكا إنما يرتبط ببينيلوبي -القوية والحكيمة والمثابرة- أكثر منه بالبطل يوليسيس الذي يحظى بشهرة عالمية راسخة.
تقول كيوري: “إنني شغوفة بتاريخ فترة ما قبل العصر الهلنستي، وأعتقد أنه علينا محاولة تفسير عالم الأساطير من منظور نسوي”، وتردف: “كان هذا حلمي بخصوص هذا المشروع. أعرف أنه أمر صعب، ولكن هدفي كان الترويج للمفهوم الأولي للطبيعة الأم. تلك هي قضية حياتي. أود أن أتحدث عن كل هذا بطريقة جديدة، بحيث يبدأ جيل الشباب ينظر للأساطير من منظور مختلف”.
شخصية رئيسية أخرى استمد منها العرض إلهامه، ألا وهي إلهة الأفعى التي تعود للحضارة المينوية المرتكزة بجزيرة كريت – لأسباب ترتبط باختياراتها المميزة وتركيزها على دورة حياة البشرية. “القوة في نظري تعني أن تكوني مسؤولة، وليس ممارسة السيطرة على الآخرين، وهو ما تركز عليه الهيمنة الذكورية. فالقوة تعني رعاية الآخرين. لذا، يعتريني شعور بالحزن عندما أصادف نساءً يتبنين هذه الرؤية. فهنا تكمن المشكلة”.
وتحت سماء الكاليمارمارو، انصهر الإلهام مع الفن والبراعة الحرفية، فتضافرت كل تفصيلة مع غيرها ليخرج لنا في النهاية نهج إبداعي متكامل. ومن المتوقع طرح مجموعة كروز 2022 من ’ديور‘ بالمتاجر والمنصات الرقمية في نهاية أكتوبر. إلا أنه في تلك الأثناء ستظل رسائل العرض الأشمل حاضرةً بين أيدينا. ومن جانبها، ترى كيوري أن الموضة ما هي إلا تجربة فنية وثقافية أيضًا، تجربة لمشاركة الخبرات الفنية، والقصص، والبراعة الحرفية. تقول: “نحن هنا بصدد الحديث عن أشياء عالية الجودة، لا تملكين إلا أن تكنّي لها كل تقدير وليس بالضرورة أبدًا أن تهمّي بشرائها. فإن زرت متحفًا ووقعت عيناكِ على تحفة فنية جميلة، فإنكِ ستكنّين لها كل تقدير، ولكن ليس بالضرورة أن تقتنيها في منزلكِ. وتظل هناك بصفة عامة فكرة أنكِ إذا ما أعجبتِ بشيء عليكِ أن تشتريه. لماذا؟ فعندما أزور متحفًا، يعتريني شعور رائع. وعندما أشاهد عرضًا جميلاً، أعود إلى منزلي سعيدة وحسب. لقد تلقيت وابلاً من الانتقادات عندما صنعت تيشيرت مزدانًا بعبارة ‘We should all be feminists’ [علينا جميعًا أن نكون نسويين]. لم أرد حينها بيع التيشيرتات، وإنما أردت فقط أن أبعث برسالة”.
رسائل كثيرة بعثت بها كيوري من الكاليمارمارو وصلتنا جميعها واضحة كالشمس. والآن، وبعد انتهاء هذا المشروع، ربما تتجه المصممة صوب نسخة مألوفة أخرى من اليونان، ذلك البلد الذي زارته لأول مرة بصحبة مجموعة من أصدقائها عقب التخرج. وزارت كيوري العام الماضي جزيرة فوليغاندروس برفقة عائلتها، إلا أنها لا تزال تحلم بزيارة مجمع أديرة ميتيورا. وحاليًا، عليها أن تعود مجددًا لمشغل ’ديور‘ استعدادًا لعرض الأزياء الراقية المقبل من ’ديور‘.
وخارج جدران الكاليمارمارو، اقتربت امرأة يونانية وابنتها من كيوري لتهنئتها على العرض – ولكن باللغة الفرنسية. فارتسمت على وجهها ابتسامة عريضة فيما وقفت لتلتقط معهما صورة سيلفي. “يخالجني دائمًا شعور بالسعادة عندما أكون في اليونان”، هكذا أخبرتني قبل أن تودعني. وأردفت: “في وقت سابق الليلة، كنت ماضية في طريقي إلى العرض، وقلت إني أشعر كما لو أني كنت أعيش فعليًا في أثينا. فالقواسم المشتركة بيننا كثيرة، من بينها أسلوب حياتنا. من المستحيل أن يعتريكِ هنا شعور بأنكِ لست في وطنكِ”.
الموضوع نشر للمرة الأولى في عدد يوليو
DIONISIS ANDRIANOPOULOS & FILEP MOTWARY تصوير