تابعوا ڤوغ العربية

من عدد مجلتنا لسبتمبر: تطريز من أجل الحرية

(يسار) مليكة البدلة و القميص من SAMSOE SAMSOE طقم الدنيم المتماثل من PAPER DAILY الحذاء من SODA & SCOTCH (يمين) شاك الجاكيت الجلد و البلوفر الأسود من PAPER DAIL

تهبّ نسمة بحرية عليلة من المحيط الأطلنطي فتخفف من حر النهار اللافح. وتقف مليكة هاني في شرفة بفناء منزلها الذي يقع وسط الدار البيضاء حيث تعيش منذ أكثر من 70 عامًا، بينما يقف ابن أخيها، المصور شاكر هاني، منحنيًا بالقرب منها وعيناه تحدقان أمام كاميرا غير رقمية. ولشدة إعجابه بعمته الخيّاطة وما واجهته في حياتها من صعاب وشدائد وانتصارات، سعى لتخليد أعمالها أمام الكاميرا، وفي الوقت نفسه، التعرّف بلسانها على عالمها الخاص، ليفتح نافذة فريدة على حياة امرأة عاملة حققت النجاح رغم كثير من الصعاب. وقد تأثّر بها كثيرًا لدرجة أنه قرر إعداد هذا الموضوع ليحتفي بعمته وتصاميمها والثقافة المغربية.

ويشير المصور إلى أن عودته إلى المغرب (من ألمانيا) جعلته “في المكان الذي قُدِّر لي فيه إعادة تشكيل هويتي واكتشاف ثقافتي واستغلال هذه الصلة العميقة لتوطيد قدمي مجددًا. فإن ضللت الطريق، عليك أن تعود من حيث بدأت – كان هذا دافعي”. وبعد أن طاف المغرب واستعاد طاقته وحيويته، سافر إلى الدار البيضاء وأمضى وقتًا رائعًا مع عمته، التي كانت تعمل خيّاطة في “سكستيز” وكانت في الثالثة والعشرين من عمرها تصمم بالفعل لعدة متاجر في الدار البيضاء ومراكش. وقد قضيا أيامًا يشاهدان الصور القديمة ويرويان الذكريات عندما قرر شاكر أن يعدّ موضوعًا تحريريًا يقدمه لــڤوغ على أمل نشره. يقول المصور: “كانت عمتي سابقة لعصرها”، ويضيف: “احتفظتْ بعديد من تصاميمها الأصلية في حقيبة سفر طوال كل هذه السنوات. وسنحت لي فرصة رائعة للعمل على قطع أصيلة”.

بدأت المشكلات في قصة مليكة منذ ولادتها. وتوضح أنه حتى وجودها نفسه مفتوح للتكهنات. تروي: “كان من الشائع في المغرب، خلال الخمسينيات، الولادة في المنزل. وكانت شهادات الميلاد تصدر عادةً في وقت لاحق، إذا احتاجتها الجهات الرسمية”.

وتضيف: “لا يوجد سوى تاريخ غير مؤكّد لميلادي، والذي يمكن تحديده من أقوال الأقارب ما بين 1950 و1951”. وقد نشأت مليكة نشأةً مغلقةً، وهي الابنة الصغرى ضمن أربعة أشقاء، والفتاة الوحيدة بينهم، ومولودة في الدار البيضاء بحي درب الكبير. “لم ألتحق بالمدرسة لأن أمي كانت دائمًا تقلق حين أتركها. كانت تفضل أن أمكث في المنزل وأساعد الأسرة وأظل برفقتها. وكانت والدتي امرأة محبّة وتهتم بمن حولها، وجاءت من قلب الصحراء. ويعُرف الصحراويون في جميع أنحاء البلاد بأمانتهم وطيبتهم ووفائهم”. وقد دلّل مليكةَ الصغيرة أشقاؤها، وتمتعت باهتمام جميع أفراد أسرتها. تقول بتفاؤل: “تُوفِّي والدي قبل ولادتي، لذا حين أفكر في ’الأبوين‘ أرى والدتي وأشقائي”. وتذكر باعتزاز كيف كانت تنادي أخيها بـ”بابا خويا”، أي “الشقيق الوالد”، وكان يجيبها بقول: “للا مليكة لي عزيزة على خوها” (أي: السيدة مليكة العزيزة على أخيها).

وفي طفولتها، رأت مليكة الصغيرة والدتها تؤدي واجبها أمًا عزباء لأربعة أطفال. وعن ذلك تقول: “اُجبِرَتْ على تربيتنا [وحدها] في عمر مبكر للغاية، وبقدر من الانضباط والاستقلالية والمسؤولية”. وفي شبابها، ساعدت مليكة في إعالة أسرتها بالعمل من المنزل. وكانت تخبز الخبز وتطهي الطعام الذي يبيعه الصبية في الشوارع، وكان نسج السجاد من الأعمال المنزلية الشائعة بين النساء. بيد أن التدّرب على التطريز كان أفضل مهارة تتطلع كل فتاة شابة لتعلمها آنذاك. ويشتهر المغرب بالتطريز (التطريز بالغُرزة المتقاطعة) والقفاطين الثرية بالخياطة والخرز. وكان يمكن لامرأة واحدة تدريب عدة فتيات في نفس الوقت. ولاحقًا، يمكن للفتيات العمل مع خيّاطين محليين لصنع الجلاليب والقفاطين التقليدية، وغيرها. ولم تكن الملابس هي القطع الوحيدة التي تُطرَّز؛ فقد كانت كل امرأة تحصل من عائلتها على تجهيزات لعرسها تشمل مفروشات ومفارش ومناشف مائدة كلها مطرزة يدويًا، وما إلى ذلك. وكانت هذه الهدية ثمينة للغاية وتتوارثها الأجيال. وكانت أشكال التطريز تشبه رسوم الحنّاء المستخدمة اليوم لتزيين أيدي العرائس وأقدامهن. وبالدخل الذي كانت تحصل عليه، لم تكن المرأة تستطيع إعالة أسرتها فقط، بل يمكنها أيضًا تحمّل تكاليف أدوات شخصية مثل الملابس ومستحضرات التجميل. وتبتسم مليكة قائلةً: “المرأة المغربية تخصص دائمًا وقتًا للعناية بمظهرها”، وتضيف: “وترتدي ملابس أنيقة دائمًا حتى في منزلها، وتهتم كثيرًا بشعرها وبشرتها. كما تتردد بانتظام على الحمّامات، وتستخدم الزيت والغسول لبشرتها، والحنّاء لشعرها، والسواك لأسنانها، والروائح العطرية كجزء من روتينها المعتاد”.

وعندما صارت مليكة فتاة في ريعان شبابها، لاحظت أن عديدًا من الفتيات والنساء يرتدين فساتين طويلة تلامس الأرض على الطراز الغربي. وكانت الأزياء الطويلة آنذاك مواكبة للموضة وتبرز الصيحات المعاصرة للملبس، ولكنها كانت أكثر تحفظًا أيضًا. وكانت النساء المغربيات الكلاسيكيات يرتدين قفاطين تُرفَع أكمامها بحامل أكمام ذهبي أو فضي. وكنّ يتزيّنّ بمجوهرات من الذهب مع قلادة صغيرة مرصعة باللؤلؤ. ويكملن الإطلالة بإزار يخفي وراءه المفاتيح والنقود وغيرها من “المقتنيات الثمينة”. ومعظمهن كنّ يفرقن شعرهن من المنتصف ويعقدنه من الخلف على شكل كعكة ويغطينه بوشاح للرأس. وتذكر مليكة: “كنتُ أفضِّل ارتداء التنانير الطويلة إلى جانب البلوزات والفساتين الطويلة التي تلامس الأرض مع وشاح الرأس التقليدي”. وتضيف: “في أيام العطلات، كنتُ أرتدي قفطانًا مطرزًا يدويًا، وأتزيّن بأفضل مجوهراتي من مجموعتي المتزايدة باستمرار.”

وكانت أخت زوج مليكة، التي كانت تعيش معها في نفس المنزل، خيّاطة الأسرة. تقول: “كنتُ أشتري القماش، ومن ثم تصمم هي الموديلات وتحيكها لي. هكذا بدأ شغفي بالخياطة”. وتردف: “كان عمري 15 عامًا وكنتُ أعلم أنني أرغب في تقديم شيء بمستوى احترافي – لكن قبل كل شيء، أردتُ أن أكون مستقلة. وشأن عديد من الفتيات الشابات الأخريات، بدأت أتدرّب على التطريز”. وتعلمت مليكة في البداية التطريز بالماكينات، ثم التحقت فيما بعد بدورة تدريبية في التطريز اليدوي لتتعلم الفن المغربي الكلاسيكي. ومنذ ذلك الحين، قامت بتطريز أعمال متنوعة بالمنزل لعملاء مختلفين – مفارش مائدة، وشراشف، وأزياء.

تقول مليكة: “في سن العشرين، قابلتُ حبّ حياتي وتزوجتُ”. يذكر أنها قامت بتطريز تجهيزات عرسها بالكامل يدويًا لتستعرض مهاراتها أمام عائلتها الجديدة. وتستطرد حديثها قائلةً: “لسوء الحظ، لم يدم زواجي. وعندما عدتُ إلى منزل أمي، استقبلوني بحفاوة، ولكني لم أكن أرغب في أن أكون عبئًا على أحد، ومن ثم سعيتُ لكسب دخلي الخاص من أجل إعالة نفسي وعائلتي”. وبالفعل، وجدت مشروعًا صغيرًا للخياطة على استعداد لتدريبها لتصبح خيّاطة. تقول: “بدأتُ العمل، حيث كنتُ أقوم بالكي ولصق الباترونات معًا بالفازلين للخيّاطين المعنيين، والذين كانوا بدورهم يحوّلونها إلى أزياء. وبعد فترة، تم تكليفي بإعداد قطع أزياء كاملة. وبعد ذلك، عملت خيّاطة لمدة 10 سنوات في بوتيك صغير باسم “ڤيا مودا”، حيث كان يمكنني أيضًا العمل على تصاميمي الخاصة. وكنتُ دائمًا أصنع الأزياء لأفراد أسرتي – كنتُ أستغلّ وقت فراغي لإبداع تصاميم جديدة وتجربة فساتين جديدة، ولا يزال هذا هو شغفي حتى يومنا هذا”. وصرحت مليكة بأن أكثر ما تحبّه في عملها هو الإبداع. تقول: “في الخياطة، تحتاجين إلى كثير من الصبر والانضباط، إلى جانب التمتّع بمهارات تواصل جيدة جدًا. لكن أهم شيء هو التوكل على الله في كل حال وبذل قصارى جهدكِ دائمًا في العمل”.

وبالفعل، تمكنت مليكة من توفير نفقات معيشتها من عملها. وتقرّ: “كنتُ دومًا أعيش على قدر إمكانياتي، ولم أتجاوزها أبدًا لأنني كنتُ أعلم أنه تقع على عاتقي مسؤولية تجاه نفسي وتجاه عائلتي”. وتواصل: “كان بمقدوري اقتناء الكماليات التي أحتاجها، وليس ذلك وحسب، بل كنتُ أيضًا محظوظة لكوني قادرة على إدخال السرور على آخرين في حياتي ممن كانوا أقل حظًا مني. وأنا أكثر من راضية عن حياتي، لقد أنعم الله عليّ بأكثر مما كنت أتخيل. ما زلت أعيش في الدار البيضاء في منزل يضم عدة أجيال. ولم أعد أعمل، ولكني أصنع الأزياء لنفسي ولأحبائي وبنفس الحماس والشغف وحب التفاصيل تمامًا كما كنت قبل 50 عامًا”.

وتبدي الخيّاطة الماهرة حنينها لأزياء الماضي المتقنة. تقول: “لم يعد الناس يحاولون التأنّق في أزيائهم. في السابق، كانوا يبذلون مزيدًا من الجهد في اختيار قطع خزانة أزيائهم”. واليوم، تود مليكة أن ترى مزيدًا من التفرّد في الموضة وإنتاجًا بكميات أقل. تقول: “أهم شيء في الموضة بالنسبة لي هو الحِرفية الفعلية. الجودة، والاختيار الصحيح للقماش، والأهم من ذلك كله، ملاءمة الأزياء وهي نقطة بالغة الأهمية”. وتشير إلى صور ابن أخيها التي تظهر نساءً يرتدين تصاميمها، ويشير هو لمدى روعة العمل اليدوي ومدى ندرته اليوم. وفي الصور، تظهر تنورة بليسيه من الموسلين مزدانة بطبعة الزهور، وتونيك ذهبي وفستان أبيض –وهو فستان زفافها الحقيقي بعد كل تلك السنوات– على خلفية تتضمن المعالم الشهيرة بالدار البيضاء مثل مسجد الحسن الثاني، وأيضًا الخلفيات الحضرية اليومية. تقول: “يفكر الناس كثيرًا في ما يرتدونه ومكان ارتدائه. حقًا، هناك قاعدتان مهمتان اثنتان فقط، وهما: الجودة، وأن يناسب الزي أسلوبكِ الخاص. أما ما دون ذلك فيعتمد على شخصيتكِ”.

اقرئي أيضًا: دعوة للمصممين الإماراتيين للمشاركة في مسابقة تصميم الزي الجديد لموظفي مراكز تجزئة “دو

الاقتراحات
مقالات
عرض الكل
مجموعة ڤوغ
مواضيع