عندما يشرع المرء في خوض غمار قطاع الأزياء الواعية، يبدو أن أول خطوة عليه أن يخطوها هي إطلاق متجر لبيع الأزياء القديمة أو المستعملة. ويؤمن كثيرون في واقع الأمر أن الأناقة التي تتخطى الزمن تظل نابضة بالحيوية لفترة تفوق أي صيحة رائجة. وربما يكون أفضل ما نستطيع فعله تجاه البيئة هو ببساطة عدم صنع أي منتجات جديدة. وقد أجابتني نوال عقل، التي تقيم في بيروت وتملك متجراً فريداً يعتبر وجهة للأزياء القديمة، عبر اتصال هاتفي، بقولها: “أنا من المناهضات للتسويق والانسياق وراء الأعراف المجتمعية”، عندما سألتها عن نهجها في ديبو ڤونت، الذي يُعد من أكثر متاجر الأزياء القديمة التي تقدم قطعاً بأسعار ميسرة وأكثرها جذباً للأنظار في بيروت.
وغالباً ما ترتبط فكرةُ النهج المستديم وغير الضار بالبيئة لمنتجات الموضة بالشركات الناشئة التي تدعمها الولايات المتحدة الأمريكية في ظل التقاء الأزياء بالتكنولوجيا، مثل موقع “رينت ذا رانواي” الذي يتيح تأجير الأزياء، ومتجر “ذا رييل رييل”. ولكن في مرحلة لبنان ما بعد الحرب، تعد الأزياء المستدامة من الأفكار التي نعرفها جيداً كجانب مهم في ثقافتنا. فقد كانت جداتنا يفصلن أزياءهن حسب أذواقهن، وكنّ يعرفنّ خيّاطة جيدة، وغالباً ما يصادقنها، تصنع لهن البذلات والفساتين وفقاً لرغباتهن. وكانت لبنان تشتهر باسم باريس الشرق الأوسط، وهناك صور من تراثها الساحر محفوظة في حسابات على انستقرام مثل @oldbeirouthlebanon و@oldlebanon. وهنا، يمكننا استعادة الشكل الذي كانت تبدو عليه الموضة آنذاك قبل أن تغزو جماعات الموضة السريعة المنطقة، وتشكل تهديداً للأسواق المحلية وثقافة الموضة المستدامة.
وفي الوقت الذي تتخبط فيه العلامات الأوروبية والأمريكية الكبرى للتوصل إلى “قصة عن الاستدامة”، أحياناً ما تكون أفضل الحلول أيسرها: وهو شراء القديم. ورغم ولع الثقافة اللبنانية في العصر الحديث بكل ما هو غربي وجديد، ثمة صوت مغاير يطالب بعودة القديم، وهو ما أدركه متجر ديبو ڤونت. وتقول نوال، التي تلتقط صوراً لعميلاتها وهن يرتدين ما تعثر عليه من قطع فريدة: “عليكِ أن تنسي الموضة، وتعملي فقط مع ما تحبين!”. وتعبر عن أفكارها عن التصوير الفوتوغرافي قائلةً: “المرآة تُبين لكِ كيف ترين نفسكِ، ولكن في الصور، يمكنكِ معرفة كيف يراكِ الآخرون”.
ويعد متجر ديبو ڤونت، الذي أسسته نوال عام 2013، من أكثر متاجر الأزياء القديمة التي تشهد إقبالاً في بيروت، إن لم يكن في المنطقة بأسرها. افتتحت نوال هذا المتجر، الذي يوحي اسمه الفرنسي “dépôt” (أي: المخزن) بالغرض الذي أقيم من أجله تماماً، منذ نحو سبع سنوات في استوديو صغير بحي مار مخايل العصري في بيروت. وتختار أزياءه بنفسها بعناية، وتولي اهتماماً خاصاً بعملائها بناءً على أذواقهم الشخصية. وتهوى فكرة استمرار “العمر الافتراضي” للقطع الفريدة التي كانت فيما مضى تُرتَدى وتُحَب، ودائماً ما تحرص على أن يشتري عملاؤها قطعاً تشعرهم بالراحة، ويستمرون في ارتدائها في المستقبل؛ ويشعرون وكأنها ملكاً لهم. وتنصح قائلةً: “يجب أن تحبي جسمكِ، وتعملي على إبراز أكثر سماته التي تعجبكِ”، مضيفةً: “والشيء الذي يتخطى الزمن هو الطريق للخلود”. وتبدأ أسعار ديبو ڤونت من 3 آلاف ليرة لبنانية وتصل إلى 100 ألف ليرة.
وتأتي بام نصر، المخرجة وعارضة الأزياء اللبنانية، والتي غادرت بيروت وانتقلت للإقامة في نيويورك مؤخراً، ضمن أشد المعجبات بالمتجر. وعن ذلك تقول: “اكتشفت ديبو ڤونت منذ نحو ست سنوات عن طريق صديقة عزيزة لي. ومنذ ذلك الحين، وبفضل شخصية نوال الجذابة، حصدت الكثير من المعجبات العميلات الوفيات، ما أتاح لها التوسع وافتتاح متجر ثانٍ في نهاية الشارع، بالإضافة إلى منزل مؤجر خصصته للأفلام، والأزياء، والتلفزيون، والإعلانات التلفزيونية”.
وتضيف بام: “أنا أدعو نوال بعرّابتي الخيالية لأنها تبحث دوماً عني، وتدعم عملي، ودائماً ما تنتقي لي الأزياء التي قد لا أختارها بالضرورة لنفسي. وتعرف جيداً جميع ما يحويه متجريها من الداخل والخارج! أعني، عندما تدلفين داخلهما، يكاد لا يمكنكِ التحرك فيهما دون الاصطدام بالأزياء والأحذية. فقد صممت متجريها بنظام فوضوي، حيث تتولى القيادة، وتقدم خدمات تشبه ما تقدمه الوالدات لجميع عملائها. وقد تمكنت، بشخصيتها الصاخبة والجذابة، من الاستحواذ على قلوب كثير من نساء بيروت بما فيهن أنا. وأتاحت للعديد من الأطفال الصغار فرصاً للتعبير عن مواهبهم، ما سمح لهم بمواصلة تنسيق أزياء أصدقائهم وتصويرهم إلى جانب عميلاتها وهو ما يظهر على حساباتهن في انستقرام”.
وتعيد نوال أيضاً تصميم الأزياء القديمة بالتعاون مع المصممين المحليين ومنسقات الأزياء المحليات ومديرات متجريها. وفي عام 2015، طلبت من بام إعادة تصميم البناطيل الجلدية وتقديمها بأشكال أخرى يمكن ارتداؤها ونظمت معرضاً مؤقتاً حيث نجحت بام في بيعها، ما جعلها تحصل على لقب مصممة. وعن ذلك تقول بام: “تهتم نوال اهتماماً كبيراً باستخدام متجريها كمنصة تقدم للآخرين فرصاً إبداعية، وتجعل النساء والرجال يشعرون بجمالهم وتتيح لهم التألق”. وتتنوع القطع القديمة الخاصة بالنساء والرجال بين التصاميم النادرة من الستينيات إلى أوائل سنوات الألفية.
تصوير: برود أنتزوليس
تنسيق الأزياء والإدارة الفنية: بام نصر
العارضة: ليا كاسيني
الأزياء: متجر ديبو ڤونت في بيروت
والآن اقرؤوا: هاريثاند تعيد أمجاد عصر الأناقة في مجموعتها لخريف 2019