فور انتهاء أول عروضه لربيع وصيف 2019، حرص المديرُ الإبداعي لدار كارولينا هيريرا، ويس غوردون، على توضيح الأسباب التي تحتّم على دار هيريرا الحفاظ على نهجها الحالي بوصفها ركيزة صناعة الموضة الأمريكية.
لا يختلف أحدٌ على أن أبناء جيل الألفية اليوم قد دفعوا، وفي غضون سنواتٍ قليلة، ببعضٍ من أهم دور الأزياء العريقة إلى حافة الهاوية. وفي محاولة للفت الانتباه المحدود للغاية لهذه الفئة العمرية التي يطلق عليها “الجيل واي” (والتلاعب اللفظي هنا متعمَّد)، ثمة قائمة شاملة من المفردات الجديدة باتت الآن تمثّل جزءاً من اللغة الشائعة والمتعارف عليها في عالم الموضة، ومنها كلمات مثل: On fleek “أون فليك” (أي: منمّق أو مشذَّب بعناية)، وbae “باي” (أي: حبيب أو حبيبة)، وreceipts “ريسيتس” (أي: أدلة)، وshook “شوك” (أي: معجب بشدة)، وwoke “ووك” (أي: الوعي بالقضايا الاجتماعية)، وbye Felicia “باي فيليشا” (تستخدم لتوديع شخصٍ غير مرحَّبٍ بوجوده)، وglassed “غلاسد” (أي: التعرُّض لهجوم بأدوات أو عبوات زجاجية)، وأحدث كلمة هي snatched “سناتشد” (أي: مذهل). في حين أن علامات أخرى قد ذهبت لأبعد من ذلك بكثير؛ ففي عام 2019 الذي يعتبر عام “الميوعة الجنسية”، ثمة تشجيع للرجال والنساء على تبادل الأزياء فيما بينهم، إذ ارتدى الممثل بيلي بورتر تصميماً يجمع بين الذكورة والأنوثة عندما ظهر ببذلة توكسيدو ذات تنورة ضخمة على السجادة الحمراء لحفل الأوسكار 2019. وفي حين أن هذه الصحفية [كاتبة هذا المقال] لم تلتقي في الشارع بعد برجلٍ يرتدي فستاناً مرصعاً بالترتر اللامع من الرأس للقدمين -خارج كرنڤال البرازيل- إلا أن هذا لم يمنع العلامات من أن تصيح قائلةً: إنها [صيحة] عصرية. وبينما تتدافع العلامات للإمساك بطرف الحبل في ما يشبه لعبة “شد الحبل” مع الزبائن من أجل جذب انتباههم -فترفع بذلك وبدرجة مقلقة من سقف تحدي إثارة إعجاب الزبائن [بما تقدمه من تصاميم]، فيما تترنح الأساليب التي تتبعها تلك العلامات فوق ما يمكن تشبيهه بـ”سفينة ضخمة بطيئة”- تقف إحدى النساء رافعةً ذراعها مثل تمثال الحرية، ولكن بدلاً من حمل الشعلة في يدها، فإنها تمسك بعناية بين أصابعها المزينة بطلاء المانيكير بمفكرة جيب، وبداخلها قوة إنفاقٍ حقيقية تأمل أن تساعدها على شراء أزياء تجعلها تبدو بمظهرٍ لا يثير السخرية؛ كما لو أنها حصلت على تذكرة ذهابٍ بلا عودة إلى ساحة الأزياء والموضة. تتمنى فقط لو استطاع أحدٌ أن يلبسها أزياءً على ذات النحو الذي تعرف به نفسها بطبيعتها الفطرية بكل ثقة.
وعندما وجب على رائدة الأعمال الخيرية الكندية سوزان روجرز -التي تمتلك عائلتها شركة اتصالات إلى جانب حصة في نادي رابتورز بطل الدوري الأمريكي لكرة السلة للمحترفين- حضورَ حفل باليه ضمن جدول أعمالها الحافل بالفعاليات، اختارت ارتداء فستانٍ ضيقٍ يكشف الكتف بكمّين منفوخين بلون طائر الفلامينغو الوردي. وأرفقت صورتها بهذا الفستان بهاشتاغ #كارولينا_هيريرا. وقد علَّق أحد متابعيها بالقول: “ذاك الفستان كل شيء”، وكتب آخر: “أنتِ في غاية الجمال”. وبعد ذلك بساعات، ظهر الفستان مجدداً – ولكن هذه المرة على حساب آيرين لودر، فقد ارتدته حفيدة إستي [لودر] احتفاءً بشراكتها مع دار كريستيز في إقامة مزاد لمجوهرات المهراجات والمغول “مهراجاز آند موغول ماغنيفيسنس”. وقد زيَّن عنقها عقدٌ عتيقٌ وضخمٌ جداً مرصع بالألماس. وعلَّق أحد متابعيها على الصورة متسائلاً: “إلى أي علامة ينتمي ذاك الفستان؟ كارولينا هيريرا؟”. ولدى تأكيد لودر لذلك، انهالت عليها مئات التعليقات التي تثني على جماله. ويشير المدير الإبداعي لعلامة كارولينا هيريرا، ويس غوردون، بالقول: “تنبع القوة الحقيقية من ارتداء أزياء تعبِّر عن شخصيتكِ، وما يجعلكِ تشعرين بأنكِ الأجمل على الإطلاق – تلك هي القوة”. ويضيف: “ولا شيء أقوى من الألوان”. ومع دخوله عامه الثالث في هذا المنصب ووصول أول مجموعةٍ رسميةٍ له إلى المتاجر الآن، بدأ غوردون يحصد ثمار النجاح عبر اتباع نهج مؤسِّسَة دار هيريرا. وفي عصرنا الذي يقلب فيه المديرون الإبداعيون دور الأزياء التي يتولونها رأساً على عقب، فإن استراتيجيته غوردون تسير عكس هذا التيار، فهو ثابتٌ ومصممٌ على موقفه. يصرِّح بالقول: “يأتي على رأس أولوياتي احترامُ القواعد المذهلة للعلامة التي أسَّستها السيدة هيريرا، إلى جانب تقديم إرثها إلى الجيل الجديد”، ويردف: “يدور عملي حول ابتكار الجمال والإحساس، فالبهجة والسعادة والضحك هي مكونات أزيائنا”. ولا تتوانى سوزان روجرز عن مدح العلامة وإطرائها حيث تقول: “أكثر ما يذهلني هو قدرته [أي: غوردون] على السير فوق الخط الرفيع الذي يفصل بين الأناقة والدراما، حيث يدمج الرقي الباهر مع لمسات جريئة وبارعة. ولطالما كنتُ عاشقةً متيّمةً بكارولينا هيريرا، حيث أعتبرُ هذه العلامة ضمن العلامات المفضلة لديّ، لا سيما عندما أختارُ فساتين السهرة. ومع تبوّء ويس غوردون منصب المدير الإبداعي، ازداد حماسي”.
وإن كانت امرأة كارولينا هيريرا تمثّل روحَ الحفل، بينما تقهقه ضاحكةً حتى تكاد تسقط على ظهرها بينما تملؤها الثقة، إذاً فإن غوردون هو شريكها الأنيق في تلك “الجريمة”. ويليق مظهره بهذا الدور، إذ يتميز المصمم القادم من جورجيا بطولٍ فارعٍ وأكتاف عريضة ووجهٍ وسيمٍ بالمقاييس الكلاسيكية وشعرٍ بلون الرمال الصفراء. إلا أنه، وبعيداً عن عيش حياة اللهو التي قد يوحي بها بنيان جسمه، فإن الشاب المدمن على العمل البالغ من العمر اثنين وثلاثين عاماً، والذي يعود إليه الفضل في إطلاق أربع مجموعات سنوياً، يكافح ليل نهار لضمان ألّا تتلاشى بهجة الحياة التي سعت هيريرا بلا كللٍ أو مللٍ نحو ترسيخها في علامتها التي تحمل اسمها – والتي أسَّستها عام 1981 عندما كانت في الأربعين من عمرها وأمّاً لأربعة أبناء. وقد نشأ غوردون وترعرع في وسط شرق أمريكا وكان معجباً بشدة بوالدته. يقول مستذكراً: “إنها امرأة جميلة وأنيقة. وكانت مراقبتي لها بينما تستعدُّ لفعالية ما بمثابة تدريب مبكر لي في الموضة”. ومنذ نعومة أظفاره، كان مداوماً على ما يرتديه هو (وترتديه هي، أي والدته)، فلا يغادر المنزل دون ارتداء حمالات بنطلون حمراء اللون وانتعال حذاءٍ مصنوعٍ من جلد وَبَري باللون الكحلي. وهو أيضاً يعشق السينما، وعن ذلك يقول: “أحببتُ فكرة الهروب [من الواقع] تلك، إلى العالم الذي وُلِدَ من رحم الحلم وقوة الصورة المرئية؛ قوة الأزياء وتصميم الديكور. ومنذ بداية مرحلة المراهقة، بدأتُ أدركُ أنه من الممكن تحويل هذا الشغف إلى مصدر رزق”، ويردف: “عرفتُ أنني أردتُ العمل في مجال الأزياء، وكنت في حاجة لذلك”. ثمَّ انتقل إلى لندن ودرس في جامعة سنترال سانت مارتينز، حيث تخصص في الأزياء النسائية وتخرج وحصل على مرتبة شرف. وقد شجعت لندن إبداعه، وإليها يعزو غوردون الفضلَ في “إخراجه من منطقة الأمان الخاصة به”. وسرعان ما عاد إلى الولايات المتحدة وتدرَّب لدى أوسكار دو لا رينتا وتوم فورد قبل أن يطلق علامته التي تحمل اسمه في نيويورك. وكان من بين المشترين الأوائل لعلامته سلسلةُ متاجر هارودز وساكس فيفث أڤينيو. وفي عام 2014، رُشِّح لنيل جائزة سواروڤسكي من مجلس مصممي الأزياء في أمريكا عن فئة الأزياء النسائية.
ولم يمض وقتٌ طويلٌ قبل أن تتواصل هيريرا معه. وفي عام 2017، كانت هيريرا تستعد لترك منصب المديرة الإبداعية لعلامة كارولينا هيريرا وتتحول إلى سفيرة عالمية لها، وكانت تبحث عن من يحل محلها. وقد أسست كارولينا هيريرا، التي كان اسمها عند ولادتها ماريا كارولينا جوزيفينا باكانينس واي نينو في مدينة كاراكاس الڤينزويلية، علامة تقدر بمليار دولار أمريكي وتعشقها النجمات والشخصيات الشهيرة، من مثيلات ميشيل أوباما، وغلين كلوز، ونيكول كيدمان، وميغان دوقة ساسكس، والملكة الأردنية رانيا. وبمناسبة إطلاق كتاب “كارولينا هيريرا: 35 عاماً من الموضة” في مدينة مدريد، علَّقت هيريرا بالقول إنها ترى أن نساء أمريكا اللاتينية والنساء العربيات “يتشاركن الكثير من القيم”، حيث قالت: “أعتقدُ أن حب عائلاتنا والناس المحيطين بنا واحترامهم هو ما يجعلنا متشابهاتٍ بشدة”.
وعن لقائه الأول بالسيدة هيريرا، يقول غوردون: “كان من المفترض أن يستمر لقاؤنا لخمس دقائق فقط، لكن انتهى بنا المطاف بالجلوس معاً لمدة ساعة كاملة، تحدثنا خلالها عن كل شيء عدا الموضة”. ويضيف مستذكراً: “فضلاً عن روعتها ونبلها، هي أيضاً ودودة ومرحِّبة بحرارة. بدا الأمر كما لو أنني أقضي الوقت برفقة صديقة مقربة”. وعندما انتقل إلى مكتبه الجديد، لم ينس غوردون جذوره، إذ علق شهادته من مجلس مصممي الأزياء في أمريكا داخل بروازٍ على الحائط إلى جانب لوحته التي رسمها هوارد تانجي، رئيس قسم تصميم الأزياء النسائية في جامعة سنترال سانت مارتينز. وشكَّل عرض مجموعة ربيع وصيف 2019 أولَ عرضٍ رسميٍّ له على منصة العروض بوصفه مديراً إبداعياً، حيث وصفته ڤوغ الأمريكية بأنه “مرحٌ، وجميلٌ، ومستفزٌّ نوعاً ما”. وقد حملت المجموعة خطوطاً لونية نابضة بالحيوية – وبصفة خاصة أشعةً من الأصفر الكناري والأحمر الفاتح. وينوِّه المصمم إلى أن الاستعمال الجريء للألوان من أوائل السمات التي أذهلته في تصاميم دار الأزياء هذه وأنه ينوي البناء على ذلك، مشيراً إلى أنه يشجع النساء على اتباع نهجٍ مرحٍ في أسلوب أزيائهن. ويفضل غوردون أزهار الفاونيا وزنبق الوادي، كما تظهر الأزهار من جميع الأنواع بأشكال غرافيكية ضخمة ومتباعدة على تنانير تنسدل باتساع وأحذية بساق تصل إلى الركبة مصنوعة من الجلد الوَبَري. كما عززت طبعةُ نقاط البولكا التي تزين البلوزات والتنانير المنفوخة الطبيعةَ الطائشة وألق السبعينيات الذي اتسمت به المجموعة، في حين تمايل فستان بفتحة ياقة واسعة على شكل V فوق المنصة فأصدر صوتاً مسموعاً حفيفاً بطابع رقصة تشا تشا تشا.
ووسط لوح ترتيب أفكاره، ثمة صورة معلقة لكارولينا هيريرا، كي لا ننسى أنها قضت السنوات الأخيرة من السبعينيات وهي ترقص في نادي استوديو 54. ينوِّه غوردون بالقول: “فستان هيريرا وعدٌ بالجمال والبهجة والمرح”، مردفاً: “إنه دعوةٌ للحظةٍ لا تُنسى. ضمانة بأن إطلالتكِ ستكون الأجمل أينما حللّتِ”. بمعنىً آخر، غوردون يفهم تماماً ما تريده المرأة.
نُشِر للمرة الأولى على صفحات عدد يوليو وأغسطس 2019 من ڤوغ العربية.
والآن اقرئي: هكذا ألهم المصورُ الفوتوغرافيُ الشهيرُ إيرڤينغ بين أحدثَ مجموعات هذين المصممين العربيّين