تابعوا ڤوغ العربية

البحث عن الجوهر… حوار ڤوغ العربيّة مع مصمم الأزياء اللبناني ربيع كيروز

تصوير جوليان توريس لصالح عدد شهر يناير من ڤوغ العربيّة.

دخلنا عالم المصمّم اللبناني ربيع كيروز في بولفار راسباي في باريس، الدار التي تحمل اسمه «ميزون ربيع كيروز»، حيث الأشياء تنطق بروح صاحبها، وحيث الوجوه كريمة والطاقة راقية وحيّة. 

نشر هذا اللقاء للمرّة الأولى داخل عدد شهر يناير 2018 من ڤوغ العربيّة، بقلم هالة كوثراني.

لمع اسم مصمّم الأزياء ربيع كيروز في لبنان وفي فرنسا، حتى أصبح الاسم وحده يسرد قصة نجاح جميلة. أردنا أن نستمع إلى القصة من بطلها، وأن نغوص في تفاصيلها منذ الفصل الأول وصولاً إلى الفصل الحالي. ممتعة زيارة «ميزون ربيع كيروز» في باريس حيث تنجذب الحواس إلى الألوان والأقمشة وطاولة الطعام في مساحة تجمع العاملين في الدار، وحيث دفء حضور ربيع كيروز نفسه يعكس غنى ثقافته وتقديره للحياة.

قصص أولى

عن المرحلة التي سبقت انطلاقته يحكي ربيع. «أخبرني أهلي، والداي وجدتي، بأنني مذ كنت طفلاً كنت ألفّ أختي بقطع القماش في المطبخ. لم ألعب بألعاب الأطفال، ربما كنت أحبّ ألعاب البناء، وأبتكر ألعاباً أخرى، أحببت أن أترك لمساتي وأساهم في تغيير ما أجده بين يديّ. كنت في الثانية عشرة حين سُئلت في المدرسة عن المهنة التي سأختارها عندما أكبر، يومها قلت بوضوح إنني أريد أن أصبح مصمّم أزياء. ومنذ ذلك الوقت ركزت اهتمامي على مراقبة الأشكال حولي وتأملها، وكنت أراقب أزياء الناس وأساليب ارتدائها. ونحن في بيتنا أولينا الثياب والأناقة أهمية. أذكر أننا كنا نشتري أزياء في أوقات معينة من السنة، وكانت دوماً أزياء جميلة وذات نوعية جيدة. أذكر مواسم الأناقة وتركيز والديّ على نوعية الأزياء المختارة. وقد احتفظت ببعض أزياء والدي، ارتديتها خلال أعوام واكتشفت لاحقاً أنها كانت من علامات معروفة مثل لانفان وسان لوران. لا أدّعي أنه اهتمام عائلي بالموضة بل بالمظهر المرتب. ثمة قصص وأسماء لم أنسها بل سكنتني، كقصّة الخياطة التي كانت تزور جدتي في القرية. كنت أراقبها وهي تعمل، وأطلب منها أن تسمح لي بمساعدتها».

معارك عامي 1989 1990 في لبنان سرّعت مغادرة ربيع إلى فرنسا. «بسبب الحرب في لبنان اقتنع والدي بأهمية سفري إلى فرنسا، وقد كان الأمر مذهلاً، والدي التاجر المبادر الذي يمتلك مخابز وأمي أيضاً لم يعترضا على تركي مدرستي لأبدأ في فرنسا، بل شجعاني. ساعدني دعمهما، إلى جانب تشجيع بقية أفراد عائلتي. كان جدي فخوراً بي، كانوا جميعهم فخورين بقراري الواضح، فشجعوني على أن أشقّ طريقي».

تصوير جوليان توريس لصالح عدد شهر يناير من ڤوغ العربيّة.

أعوام الدهشة في باريس

يكاد ربيع لا يصدّق بداية قصّته الباريسية. وصل وحده إلى العاصمة الفرنسية، وكان في السادسة عشرة. «بدأت وحدي في مجتمع الموضة. كنت للمرة الأولى أختبر العيش في المدينة، ففي لبنان لم أعش في بيروت، عشت في بلدة غزير في محافظة جبل لبنان، وبسبب الحرب لم نكن نزور بيروت. باريس لم تفتح عينيّ على الموضة والمهنة فحسب بل على كل ما هو مبهر ومدهش، على كل ما يجذب فيها، على هذه المهنة التي أعشقها، وعلى أهلها الذين عملت بينهم وتعلّمت على أيديهم. كانت أعوام باريس الأولى مدهشة، أعوام العلم الذي استقيته من كلّ شيء. أمضيت عاماً تحضيرياً ثم انخرطت في مدرسة غرفة النقابة لتصميم الأزياء الراقية والجاهزة خلال ثلاثة أعوام، تبعتها فترة تدريبية استمرّت عاماً واحداً.

“أحترم مهنتي، وإذا كنت أعتبر نفسي مبتكراً وأمنح ابتكاراتي قيمة لا يمكن أن أقدّم تصاميم جديدة كل ثلاثة أشهر… هذه كذبة كبرى

خلال أعوامي الباريسية الخمسة كانت الأبواب مفتوحة أمامي، ولحسن حظي أن إصراري على التقدّم في هذه المهنة أوصلني إلى مكان أفضل، وجعل الآخرين يقدمون لي الدعم، وأهلي يقتنعون بقراري. وبفضل إرادتي ودراستي وطريقة عملي وانضباطي، استطعت أن أعمل متدرّباً في داريّْ شانيل وديور، حيث حصّلت أهم ما تعلّمته في حياتي».

ربيع كيروز بعدسة جوليان توريس لصالح عدد شهر يناير من ڤوغ العربيّة.

سحر بيروت

كانت بيروت في منتصف التسعينيات ترقص على إيقاع حماسة أبنائها لمرحلة ما بعد الحرب. كان الإبداع يتفجّر، وبرغم مصادرة القرارات السياسية التي حصد اللبنانيون نتائجها وما زالوا يحصدونها، كانوا يتوقون إلى التفنّن في العيش وفي بناء سلامهم الجديد. «عام 1995 رجعت إلى لبنان للمشاركة في معرض رمى، إلى جانب أنشطة أخرى، إلى إطلاق وسط بيروت، وجمع بين مصممي أزياء لبنانيين وفرنسيين. وقعت في غرام بيروت المنفتحة دوماً على العالم، هذه المدينة التي كنت أراها في الأفلام والكليبات والصور والتلفزيون. أردت أن أكون جزءاً منها وأن تكون جزءاً مني. قررت أن أبقى. عشت سعيداً مرحلة شغفي ببيروت حيث شاركت في معارض عدة، وحيث مصادفةً تعرفت في حفلة عشاء إلى عروس تجهز نفسها لحفل زفافها. رسمت لها فستان الزفاف، ويوم طلبت مني المباشرة في تنفيذه، افتتحت محترفاً في بيت أهلي. ثم بدأ اسمي يتردد بين المقبلات على الزواج، وانطلقت في عملي كمصمّم أزياء. لذا أعترف بأن بيروت أعطتني وما زالت تعطيني، وأنا مرتبط بها ارتباطاً يثبّت قدميّ على الأرض. برغم كل ما يحصل، الأمل يولد كل يوم في بيروت. الشعب اللبناني يبكيني ويضحكني، مثل البلد، يحرّك فيّ مشاعر الحب والغضب والحنان. فالبلد كلّه مصدر إلهام، بطقسه وشمسه وحركة أهله في الشوارع وطريقة عيشهم، وتوقهم إلى المرح. كل هذا يعلّمني الكثير، ويوحي لي الكثير، بيروت أيضاً تدلّني على ما ينبغي ألا أقوم به».

تصوير جوليان توريس لصالح عدد شهر يناير من ڤوغ العربيّة.

تصاميم ذكية 

خلال عشرة أعوام قدّم ربيع كيروز في بيروت الأزياء الراقية. «هذه الأعوام العشرة كانت مدرسة مهمة، علّمتني الصبايا والنساء اللواتي صمّمت وصنعت لهن فساتين الأعراس والسهرات أهمية أن يشعرن بالراحة في أزيائهن. أحياناً نصرّ على شراء زيّ من ماركة معيّنة ولا نهتمّ براحتنا ونحن نرتديها، أحياناً، ويا للأسف الاسم يستقطب الأهمية وتكون له الأولوية. لكن عندما تقررين تفصيل فستان سهرة، تختلف الشروط، تعلّمت أن الراحة أهم هذه الشروط. الآن حين أصنع أي زيّ تجرّبه العارضة والسيدات في محترفي، لأعرف إذا كن كلهن مرتاحات فيه. دوماً أتبع الطريقة نفسها وأحدّد الهدف نفسه. أحرص على أن يمرّ الهواء بين القماش والجسم. هذه المساحة أسمّيها ملعباً، تسمح لمن ترتدي الزي أو الفستان أن تلعب فيه، يمكن أن تلف الخصر بحزام أو أن تتركه حراً، يمكن أن ترفع الزيّ أو أن تخلع جزءاً منه. أزيائي كلّها تتبع الفكرة نفسها، فكرة اللعب والتبديل. لكن هناك طبعاً ما يجب أن يتبع قاعدة ثابتة، وألا يتغيّر، وهذا ما يعرفه فريق العمل تماماً».

“الجمع بين الأزياء الراقية والجاهزة هي الفكرة التي بنيت عليها عملي”

تبوح التصاميم بأفكار مبتكرها. تكشف عن خلفية فكرية وثقافية تسند الأزياء وتجعل لها تاريخاً وحاضراً ومستقبلاً. يوافق ربيع على أنه يفكر في التصاميم. «لكنني لا أقصد أن يظهر ذلك. ولا يمكن أن أكون سطحياً في أي عمل أقوم به. قررت أن أنتقل إلى باريس كي أعمل مع الحرفيين الفرنسيين وأنهل من خبرتهم، وأستفيد من طريقة العمل الفرنسية، ولا يمكن أن أصنّع في بلدان معينة حيث كلفة العمل أقلّ. لا أريد أن أوفر على حساب ما أكملت مسيرتي على أساسه. وإذا قررت أن أطرّز في لبنان، فإن السبب يعود إلى رغبتي في التعاون مع مَن يستحقون دعمي في لبنان. لقد أنعم الله عليّ بالنجاح والشهرة، لذا لن أصدّ مَن يقصدونني من بعلبك بهدف تطوير التطريز في المدينة. يستحيل أن أقول لا لمشروع من هذا النوع. أردّ الجميل لأنني أخذت وأُعطيت، والحياة أخذ وردّ. أستفيد من عملهم الحرفي وأفيدهم بعلاقاتي التي أوظّفها لأؤمن لأعمالهم الانتشار. كل ما أقوم به يصدر من قلبي».

تصوير جوليان توريس لصالح عدد شهر يناير من ڤوغ العربيّة.

«الشرق الذي يلهمني»

تتغيّر مصادر الإلهام مع تطوّر التجربة. «إذا لم تتغير نملّ، لكن الروح والأساس لا يتغيران. الصدق هو أهم ما يظهر في التصميم. والروح تسمح لنا بالتعبير عن كل شيء. كل ما يصدر من القلب هو نحن، وهو جميل وحقيقي. اليوم أنظر إلى تصاميم قدمتها في الماضي، ربما لا أعيد تقديمها، ليس لأنني تغيرت بل لأن الأمور تغيّرت والحياة أيضاً. بالطبع تطوّرتُ وشذّبت عملي خلال الأعوام العشرين الماضية، كأنني أكتب القصة وأعيد كتابتها حتى أتخلّص من الحشو والتكرار. أرسم تصاميمي وأعيد رسمها حتى أستطيع أن أشرحها بخطوط ثلاثة، عندها أعرضها على المنفذين. وأوصي فريق العمل بضرورة أن يصنعوا الفستان من دون تعقيدات، ببساطة وسلاسة. هي عملية بحث عن الأساس، عن الجوهر. أبحث عن جوهر الأزياء، ولا أحب الزخرفة. عندما يقال لي إن تصاميمي ليست شرقية وإن أسلوبي أوروبي بسبب بساطته لا أردّ لأن أسلوبي شرقي بامتياز، فالشرق الذي أحبه وعشت فيه وأعرفه هو الشرق الذي يهتمّ بجوهر الأشياء. البيوت القديمة العربية في الخليج أو البيت اللبناني القروي، بيوت بسيطة، بديعة في تصميمها المرتكز على الأساس. الأزياء العربية جميلة ببساطتها، كالفستان الذي يرتكز على الكتفين وفوقه المعطف الذي قد يلتف حوله حزام، ويمكن أن يُزيّن بجواهر لكن من دون زركشة بلا أي معنى. هذا هو الشرق الذي يلهمني. العباءة والقفطان من أجمل الأزياء التي تلهمني وأستمتع بتأملها. معاطفي تلتف حول الجسم مثل العباءات، فساتيني أستلهمها من انسدال الثوب الشرقي. هذا ما أحبه وأجده نبيلاً في الأزياء، حين ينسدل الثوب أو العباءة على الكتفين، لتمنح المظهر أناقة ذات هيبة. لذا فإن أزيائي ترتكز على الكتف وليس على الخصر. الكتف تجعل الفستان أو المعطف يتحرّك».

«كل مهنة فنّ»

تصميم الأزياء مهنة وفنّ، يردّد ربيع و«نبل أي مهنة يقوم على الانسجام والتناسق بين الفكر واليد. «المعلّم» في أي مهنة إن كان حداداً أو بنّاءً أو خبازاً، أصبح معلّماً لأنه فكر، استعمل عقله ويديه. كل مهنة فن، ونعم أعتبر تصميم الأزياء فناً ومهنة وطريقة تعبير. أحترم مهنتي، ألهث لكي أقدّم ما يجب أن أقدّمه في الوقت المناسب. وإذا كنت أعتبر نفسي مبتكراً وأمنح ابتكاراتي قيمة لا يمكن أن أكذب وأقول إنني يمكن أن أقدّم تصاميم جديدة كل ثلاثة أشهر، تلك كذبة كبرى. الأمر مستحيل. من يصمّم كرسياً، يستمرّ ثلاثة أعوام في تنفيذه ويبيعه خلال خمسين عاماً، فلمَ نركض نحن مصمّمي الأزياء؟ هذا الاستسهال يهدّد النوعية. الموضة طريقة تعبير وأنا أريد أن آخذ وقتي لأعبّر. وبصراحة ووضوح أحتاج إلى ستة أشهر لتصميم كل مجموعة من مجموعاتي».

تصوير جوليان توريس لصالح عدد شهر يناير من ڤوغ العربيّة.

«الجسر ودوره الأجمل» 

يشعر ربيع كيروز بأنه يعيش «على جسر بين الشرق والغرب، بين الأزياء الراقية وتلك الجاهزة، حتى قصّات أزيائي هي قصّات تجمع بين أزياء الرجال والنساء. الجسر يجمع، هذا دوره الأجمل. أقدّر الحرية والحظ اللذين يسمحان لي بأن أستفيد من خبرتين تمنحانني غنى في حياتي وعملي وتفكيري. هذا ما أحافظ عليه وأحبه، وما يحرّك ذهني».

فكرة الجسر تظهر مجدداً في كلام كيروز عن علاقته الجديدة بالأزياء الراقية، فهو كما يقول لم يتخلّ عن أسلوب تنفيذها. «قررت أن أصنع الأزياء الجاهزة بروح الأزياء الراقية، فأتأنّى في اختيار الأقمشة ورسم القصات وتنفيذها، كي تشعر من ترتدي الفستان بأنه صنع لها خصيصاً، وهذه هي روح الأزياء الراقية. لكنني أريد أن يباع هذا الفستان في البوتيك خلال نصف ساعة، هدفي هو أن تباع أزيائي، لا أن تعلّق في معارض. أريد أن أبيع وأن تكبر شركتي وأن أرى نساءً في الشوارع يرتدين أزياء دار ربيع كيروز. الجمع بين الأزياء الراقية والجاهزة هي فكرتي التي أعمل على أساسها منذ سبعة أعوام. أنا أقدّم مجموعة من دون أن أنشغل بتصنيفها، وقد قررت أن أعرضها خلال أسبوع الموضة الراقية كي أبتكرها وأصنعها بتأنًّ. وهذا التأني هو قمة الرفاهية. نحن في عالمنا الآن نظن أن الرفاهية هي أن نشتري أشياء، لكن الرفاهية هي أن نتأنى في التفكير وفي اتخاذ القرارات».

معاطفي تلتف حول الجسم مثل العباءات وفساتيني أستلهمها من انسدال الثوب الشرقي”

 

لا يعبّر ربيع كيروز عن إبداعه بالأزياء فحسب بل يتجلّى هذا الإبداع في مشاريع عديدة مثل فندق بيت دوما في لبنان ومؤسسة ستارش التي أسسها لدعم المصممين الشباب. فما سرّ هذه الطاقة على الابتكار والعطاء؟ «لم أنشأ في عالم الموضة، لم أر أمي تتأنق استعداداً للخروج. نشأت قريباً من الأرض، وما زلت أحنّ إلى مونة جدتي، إلى رائحة المناقيش ورُبّ البندورة. تهمّني هذه الذكريات مثلما تهمني زيارة معرض لرسوم فان غوخ، وهي تحرّك عواطفي مثلما تحرّكها لوحة لرامبرانت. طريقة تعبيري وأسلوب حياتي يدفعانني إلى أن أحيط نفسي بهذه الأمور التي تؤثر فيّ، لا يمكن ألا يكون بيتي جميلاً وألا أرتاح فيه. أحب أيضاً أن أتشارك مع الآخرين، أن أتقاسم معهم كل جميل يحيط بي. مشاريعي كلّها تنطلق من حبي الناس، من رغبتي في أن يكتشفوني وأن يكونوا حولي، أحب اللعب كمصدر للفرح، وأحب الفرح، لذا أبتكر حولي عالماً جميلاً وأشياء جميلة».

نجمة الغلاف نانسي عجرم كما لم تروها من قبل

الاقتراحات
مقالات
عرض الكل
مجموعة ڤوغ
مواضيع