تبرهن المديرة الإبداعية لدار كلوي، ناتاشا رامزي ليڤي، على قوة موهبتها بتقديمها سرداً للموضة يُعنى بالنساء المفكرات، والمثقفات، والمعاصرات مثلها تماماً
نشر هذا المقال في عدد شهر فبراير 2019 من ڤوغ العربيّة
منذ تعيينها مديرة إبداعية للدار الفرنسية العريقة كلوي، تُعرف ناتاشا رامزي ليڤي بالمرأة الـ ”كول“ Cool. والمصممة غير التقليديّة الجريئة صاحبة الأسلوب الراقي تمد دار كلوي، التي تأسست منذ 67 عاماً، بطاقة جديدة بعد انتهاء مهمّة مصممة الدار السابقة، كلير وايت كيلر. وإلى جانب موهبتها، تتمتع ناتاشا بشخصية تبعث على الدهشة والإعجاب. إذ تتنوع ثقافة هذه العاشقة للسينما، والقارئة النهمة، والمغرمة بالسفر ما بين الفنون الجميلة وفن البوب، ورغم ذلك تفضل قضاء الوقت على الأريكة مع ابنها الصغير بالتوس، مسترخيةً بصحبة كتاب جيد (تطالع كتباً لمؤلفين لم تسمعي بأسمائهم قط) أو القيام بجولة في السوق الشعبية “لشراء أغراضها” أو أي شيء دون أن “يخدمها أحد من الناس” مثلما حدث بعد إطلاقها لواحدة من المجموعات الست التي تتولى مسؤولية إبداعها سنوياً في دار كلوي منذ تعيينها عام 2017.
“آه، لا يمكنني تحمل ذلك طويلاً”، تقول ضاحكةً مشيرةً لفكرة التدليل الزائد الذي تحظى به من فريق عملها من دون أن تطلبه. وإذا كانت ناتاشا تبدو إلى حد ما في الصور مثل فتاة فرنسية لا مبالية، وصاحبة أسلوب صبياني نوعاً ما لما ترتديه من بنطلونات كاجوال وتيشيرتات، ومتحفظة بعض الشيء بنظراتها الباردة التي يؤطرها حاجبان كثيفان، إلا أنها في الحقيقة، تتمتع بشخصية تضاهي بشرتها البرونزية وشعرها الكستنائي دفئاً وحرارة.
ويميّز إطلالتها – التي تتألف من بنطلون كاجوال وسترة مطبعة – طابع أنثوي وموسيقي بفضل الرنين الناعم الذي تعزفه أساور تُزين معصميها. كما يتناغم قرطان ضخمان يتدليان من أذنيها بوهجهما الذهبي مع ظلال الجفون البرونزية الخفيفة التي خضبت بها جفنيها الكثيفين ما كشف عن روح مرحة لم تكن لتظهر للعيان لولا مظهرها ذاك.
الآن نجحت ناتاشا الآن في أن تحتل مركز الصدارة، بعد 14 عاماً أمضتها بجوار مرشدها ومعلمها، المصمم نيكولا غيسكيير – في دار بالنسياغا في بادئ الأمر حيث بدأت عملها بتقديم القهوة ثم في دار لوي ڤويتون التي غادرتها بعدما وصلت لمنصب مديرة التصميم – حيث يدور في فلكها فريق عمل يتولى أفراده مهمة إخراج إبداعاتها إلى النور.
تأسست دار كلوي، التي تشتهر بالطابع الأنثوي، والبوهيمي، والروح الطلقة المترفة، عام 1952على يد غابي أغيون، المصرية المولودة في الإسكندرية، والتي زارت باريس للمرة الأولى عام 1947. وتكشف المديرة الإبداعية: “لا أريد أن أبدو مُدعية، ولكني كنت أعلم الكثير عن كلوي، كعلامة، عندما بدأت العمل في الدار. ولكني لم أكن أعلم الكثير عن غابي، مُؤسستها. فقد كانت شخصية متحفظة للغاية؛ وليس لدينا سوى عدد قليل من الحوارات معها في المحفوظات. فلم تكن غابي تعبأ بذيوع اسمها. كانت تشعر دوماً بأن الناس إن كانوا مهتمين بها، فسيجدونها”.
لقد أصيبت غابي بصدمة عندما زارت باريس، وأدهشها فقر المدينة، ولا سيما سوء حال نسائها، إذ لم يكن يملكن آنذاك حتى حرية فتح حساب في البنوك. وبالمقارنة بهن، شعرت غابي بمدى تطورها. فقد كان زوجها، الذي ينتمي لعائلة ثرية تعمل في تصدير القطن، قد نشر بحثاً يناهض الاستعمار. وتقول ناتاشا: “كان كلاهما يتمتع بروح طلقة، طليعية. ومن المهم إبراز موقفهما هذا، لأن المصممين في باريس، في ذلك الحين، لم يقفوا دائماً في الجانب الصحيح للتاريخ”. هذه القصة تذكر ناتاشا بأجواء البيت الذي نشأت فيه. وتذكر: “والدي يُجسد الشخصية الكاريكاتيرية للرجل الفرنسي في سنوات الستينيات والسبعينيات. فهو رجل ينتمي إلى عالم الأفكار والمسؤوليات. وكنت أسير معه في دروب باريس، للمطالبة بالحقوق الاجتماعية والقضاء على العنصرية”.
وباعتبارها إحدى زبونات الموضة، أسست غابي دارها الخاصة لا بدافع الحاجة ولكن بناء على رغبة تَملكتها. وتؤكد ناتاشا: “كانت امرأة شديدة الثراء، ورغم ذلك لم تتمكن من العثور على الأزياء التي تريدها. ولم تكن تملك مهارات التصميم، لذا عينت ماكسيم دو لا فاليز وكارل لاغرفيلد ليرسما لها رؤاها – وهذا يُشكل في حد ذاته اتجاهاً فنياً نراه اليوم”. وأطلقت غابي على الدار، التي قدمت عبرها أزياء جاهزة فاخرة، اسم صديقتها، بدلاً من اسمها، فقد أعجبها استدارة حروفه ووقعه على الأذن. وعرضت باكورة مجموعاتها في كافيه ليب وكافيه دو فلور بباريس، فقد كانا مقصداً لجماعة السرياليين والمفكرين الوجوديين في المدينة، الذين كانوا آنذاك، يتوافدون من شتى أرجاء أوروبا لزيارة عاصمة النور.
تعلق ناتاشا ملوحةً بيدها نحو مكتبها الواسع داخل مقر كلوي: “كان نيكولا [غيسكيير] يقول لي دوماً بأن هذا قدري”. ويزخر مكتبها باللوحات الفنية، والكتب، والتحف منها تابوت حجري تم شراؤه من مزاد علني منذ مدة “ليست بعيدة”، إلى جانب سيراميك من تصميم الفنانة الفرنسية ڤالنتين شليغل أُعجبت به ناتاشا لشكله الحيوي الناعم. وعن تعيينها بالدار تقول ناتاشا: “لم أتوقعه أبداً. ولأن نسعد بمفاجأة أفضل من الإحباط. ولكن أجل، أحسست بأني مستعدة”. وتتذكر المديرة الإبداعية أن جدتها، الخياطة، كانت تُصر على أن يكون لحفيدتها رأي في كل أمر. وقد أصبحت أزياؤها التي تصنعها في المنزل وسيلتها للتعبير عن اهتماماتها الدائمة التغير وحالتها المزاجية – والتي كانت تتعلق في الغالب بأنواع الموسيقى، سواء كانت راب، أم روك، أم ريڤ.
اليوم، ترى هذه المبدعة، التي تُبدل مظهرها بحسب ما تشعر به، أنها لم تتغير حتى بعد بلوغها التاسعة والثلاثين. ولكنها الآن فقط، تتحدى هذه الحالات المزاجية لتكتب فصلاً لها في كلوي. وتقول: “إذا نظرتِ إلى أعمال [المديرين الإبداعيين السابقين] كارل، أو هَنَا [أي ماك غيبون]، أو فيبي [فيلو]، تجدين أنها جميعاً مختلفة للغاية. فكلوي دار يمتد تاريخها إلى سبعين عاماً وكل مصمم عمل بها سجل فصلاً في قصتها دون أن يخون هويتها. وبوسعكِ إبداع هذه الرؤى المختلفة طالما تحترمين هويتها كدار تتميز بطابع بالغ الأنوثة. فكلوي روح، وليست علامة للأزياء تقدم إطلالة كاملة؛ بل أزياء يمكن أن تُعزز جمال المرأة التي ترتديها”.
وتشير إلى أنه في الماضي، كانت كلوي تُركز على الأسلوب البوهيمي، وخاصة طوال مدة تولي وايت كيلر منصبها الذي امتد لست سنوات، وتسعى ناتاشا إلى استكشاف فكرة البوهيمية عبر عدستها. وتقول: “النطاق الإبداعي لكلوي شديد الرحابة. يمكن أن يميل أكثر إلى الطابع الصبياني، أو المثير حسياً، أو العصري؛ في نهاية المطاف، لا يهم سوى احترام الطابع الأنثوي للدار عبر تحقيق التوازن وجعل امرأة كلوي مشاركة أكثر، وليست سلبية”.
وتكشف المديرة الإبداعية أنها بذلت جهداً كبيراً لتكون أكثر “صخباً” في حملاتها الدعائية التي صورها ستيڤن مايسل وتصدرتها العارضة إيمان همام وتعاونت فيها مع ملهمات عربيات مثل ليلى سليمان والمخرجة هدى بن يمينة التي أجرت معها حواراً عبر خدمة البث الصوتي [بودكاست] لمناقشة مفهوم الأنوثة. وعن الأنوثة تقول: “لقد تطورت، ولكن ليس إلى حدِ كبير. وفي النهاية، بما أن النساء بوسعهن الحديث، باتت لدينا أمور مثيرة للاهتمام لنناقشها. وقد كان للنساء دوماً صوت. واليوم، أصبح مسموعاً”.
للتعبير عن أفكارها، تستقي ناتاشا مجموعاتها من الشخصيات المرجعية التي تشغل عقلها. وفي مجموعتها لربيع 2019، نظرت صوب بلاد فارس واليونان في محاولة لإعادة بعث روح امرأة تسير بين رمال الصحراء الدافئة ولكنها تستمع أيضاً بالحياة قريباً من البحر. وتوضح: “لدي هذه الطريقة في عمل الأشياء وهي فرنسية صميمة – تتمثل في وضع تناقضات من خلال الطبقات. وقد أحييت مشاعر السبعينيات ولكن بحس خيالي. فأنا لم أذهب إلى إيران، لذا هذه فكرتي عنها”. وفي هذه المجموعة، تستكشف ناتاشا الحضارة الكيكلادية، التي ظهرت في بداية العصر البرونزي، عبر الطابع الهيبي العصري مع تداخل باذخ للأقمشة مثل الڤسكوز الحريري والدينم التي تُقص لتتخذ شكل التنانير الرقيقة، والسترات الضخمة، وبنطلونات البيجاما، والفساتين القصيرة ذات الألوان الترابية. والكثير منها مُجلل بالطبعات الملونة المستوحاة من الشرق الأوسط وجميعها يزدان بطبقات تتألق بفيض من الجواهر تتأرجح على الخصور، والآذان، والرقاب، والمعاصم، والأصابع. وتتنهد المصممة وقائلةً: “أعشق موسم الربيع. فمع جميع هذه العناصر الطبيعية – تعودين إلى بساطة الحياة”.
عبر إشرافها على تصميم الإكسسوارات، تبرهن ناتاشا على أن المجوهرات ساحة أيضاً للإبداع الفني. وتقول مشيرةً إلى الأساور التي تُزين معصميها: “التمائم هي أماكن يمكنكِ فيها وضع الكثير من المشاعر والرسائل”. وقد نُقشت على أحدها مقولة للشاعر العظيم ويليام شكسبير، “كلمات لا تحمل أفكاراً لن تبلغ أبداً السماء”. وأقرأ على سوار آخر، “الآثار وحدها تبعث الأحلام”. وتقول المديرة الإبداعية: “وهذا”، وهي تلف الخاتم الذي يُزين إصبعها، وتردف: “لقد صنع لي ابني خاتماً من القصدير بمناسبة عيد ميلادي. وفكرت في أنه كان جميلاً للغاية، لذا اخترنا تقديمه”.
مثل أي حكيم حقيقي، تتمتع ناتاشا بعقل شغوف بالمعرفة. وعن ذلك تقول: “الموضة ذات طبيعة تتطلب الانفتاح – وكل شيء يثير الإلهام. وتعد المحفزات جزءاً من أسلوب الحياة”، مضيفةً بأنها تستعد للاستمتاع بأمسية موسيقية كلاسيكية محضة خلال عطلة نهاية الأسبوع بصحبة صديقها الجديد. “أقمت مدة عامين أمام أوبرا كوميك ولم أذهب إليها قط”. وتضحك قائلةً: “لا أعلم شيئاً عن الأوبرا وأتوخى الحذر في الاستكشاف، لأني كلما اكتشفت شكلاً جديداً للتعبير، أفكر، ’آه، كم هو متسع نطاق الإبداع!”، وتزداد ابتسامتها إشراقاً. إذ يشكل الفن الرفيع، لامرأة مثل ناتاشا رامزي ليڤي، متعة أخرى مثيرة للحواس؛ فهي ترى كيف يتخذ أشكالاً مختلفة عبر فن قص القماش، الذي تحترفه هذه المبدعة ببراعة تامة.